تم التحرير بتاريخ : 2021/01/06
الحديث عن الحقيقة ليس بالأمر السهل، إذ يحمل في ثناياه الكثير من المعضلات، فعندما يتم تناول مفهوم الحقيقة بالمفرد يبدو كأن ثمة حقيقة واحدة ثابتة، بينما عندما يجري الحديث عن الحقائق بصيغة الجمع، من حيث هي قضايا متعلقة بجزء ما من هذه الظاهرة فهنا تحمل الحقيقة معنى جزئيّاً أو نسبيّاً، فيجري الحديث في إطار المعرفة العلمية عن الحقيقة العلمية، ومن ثم تتفرع هذه الحقيقة إلى حقائق علمية عديدة، كالحقيقة الفيزيائية والحقيقة البيولوجية والحقيقية السوسيولوجية، ويمتد المجال ليشمل حقولاً معرفية في الوجود، كالحقيقة الفنية والحقيقة الدينية وغيرهما.
يتميز الإنسان عن بقية المخلوقات بالفضول العلمي أو حب الاستطلاع والرغبة في تجاوز المجهول، فهو يسعى دائماً لاكتساب المعرفة، والبحث عن المعرفة يقتضي الكشف عن حقيقتها، فما المقصود بأبحاث الحقيقة؟ وما هي أصنافها ومعاييرها؟ ما علاقة الحقيقة بالواقع؟
الحقيقة تعني ماهية الشيء وجوهره، ويختلف مفهومها حسب اختلاف المعايير التي تقوم عليها، إذ تعني الحقيقة عند المذاهب الحسية والواقعية والتجريبية مطابقة أحكامنا العقلية للواقع والتجربة، فمثلاً عندما نقول إن الماء يتبخر بالحرارة حكم صحيح يمثل حقيقة قائمة فإن معيار صحة هذا الحكم هو التجربة، أمّا الحقيقة عند الرياضيين هي مطابقة النتائج للمقدمات (اتفاق الفكر مع نفسه)، والحقيقة عند بعض الفلاسفة هي الكائن الموصوف بالمطلقية والثبات كالخير والله.
وهي مسعى كل الفلاسفة، حيث نجد أفلاطون قسّم العالم الى عالمين، عالم محسوس وهو عالم مزيف، وعالم معقول وهو عالم المثُل الذي يحتوي على حقائق مطلقة كالخير والجمال والأشكال الهندسية، وعند أرسطو تكمن الحقيقة في المحرك الذي لا يتحرك أي الله، إنه السبب النهائي للطبيعة والقوة الدافعة للأشياء وهدفها، أي صورة العالم ومبدأ حياته.
وتتخذ من عالم الظواهر الطبيعية موضوعاً لها، وتتميز بالنسبية والتغير ورفضها للمطلق.
يرتبط هذا النوع من الحقيقة بمجال التصوّف، فالمتصوفة تتبع نهج الزهد في الحياة وترك ملذاتها وشهواتها والتقرب إلى الله بالطاعات والعبادات، فالتصوف تجربة ذاتية يتصل بواسطتها المتصوف بالحقيقة المطلقة ويحاول إدراكها لا عن طريق الحواس ولا العقل بل بحدس باطني.
يرى مجموعة من الباحثين أن المقياس الوحيد هو الوضوح والبداهة، فالعقل عندهم قوة فطرية تستطيع أن تدرك جميع الحقائق، فالحقائق التي يصل إليها العقل حقائق مطلقة أي صادقة صدقاً تاماً، لأن الحكم الصادق يحمل في طياته معيار صدقه وهو الوضوح الذي يرتفع فوق كل شيء، وبالتالي لا يمكن أن يصدق مرة ويكذب مرة أخرى، ويتجلّى هذا في البديهيات الرياضية لكون المبادئ الرياضية مبادئ صادقة لذاتها وتقبلها جميع العقول، مثلاً، الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين، وسبعة عدد فردي وخمسة نصف العشرة، إنها قضايا صحيحة ويقينية وتستمد صفة اليقين من ذاتها كونها قضايا واضحة وبديهية لا تحتاج إلى برهان لأن ليس هناك ما هو أوضح منها للبرهنة عليها، ولهذا فالإنسان متى استعمل عقله استعمالاً على أساس الوضوح سيكون بإمكانه الوصول إلى الحقيقة.
وقد نحسب بأننا على صواب في أحكامنا على أساس البداهة والوضوح، لكن يحدث أن يقف أحدنا بعد ذلك على خطأ، وقد يحدث لأحدنا أن يرى بديهياً ما يتوافق مع تربيته وميوله واتجاهاته الفكرية، فالوضوح في هذه الحالة ليس محك الصواب وإنما توافق القضية المطروحة لميول الفرد وآرائه هو الذي يجعلها صحيحة وواضحة، والدليل على ذلك أن الكثير من الآراء تجلّت صحتها وهي واضحة فترة من الزمن ثم أثبت التفكير والأبحاث الدقيقة بطلانها، كما أن فكرة البديهية في الرياضيات المعاصرة تغير مفهومها حيث أصبحت مجرد فرضية.
يذهب هذا الموقف إلى القول أن الحقيقة تقاس بمقياس العمل المنتج وما تحقق من منافع في دنيا الواقع، وعلى هذا فإن كل فكرة لا تنتهي إلى سلوك عملي في دنيا الواقع هي فكرة خاطئة، فالحقيقة لا تُطلب لذاتها وإنما تُلتمس كوسيلة لتحقيق أغراض في دنيا الواقع، فبمقدار ما تكون الأفكار مفيدة تؤمن لنا النجاح في هذا السلوك فإنها تعتبر صحيحة وعندما لا تحمل معنى مفيد في المعرفة فإنها تصبح من المجردات البعيدة من الواقع، فالحقيقة إذاً في ما تحقق من منفعة وما يترتب عنها من فائدة، فالفكرة الناجحة هي معيار للحقيقة وليس العقل، ولا سبيل للتفرقة بين الأفكار الصحيحة من غيرها إلاّ بالمنفعة، والفكرة قبل أن تثبت منفعتها لا سبيل للحكم عليها بأنها صحيحة أو غير صحيحة، فالأفكار ماهي إلا أدوات ووسائل تعمل على حل مشاكلنا في أرض الواقع وذلك بمقدار نجاحها، والفكرة الصادقة هي التي تؤدي بنا إلى النجاح في الحياة، والمقياس النهائي لاختبار أي فكرة هو المنفعة والعمل، فالفكرة الدينية حقيقة إذا كانت تحقق للنفس الإنسانية المنفعة كالطمأنينة والسعادة والفكرة الاقتصادية الحقيقة إذا كانت تحقق الرفاهية المادية، فالأشياء تكون حقيقة حسب المنفعة التي تستهدفها وتحققها، بالإضافة إلى أن البراغماتية حولت الحقيقة من موضوعية إلى ذاتية متقلبة من فرد إلى آخر ومتعارضة بين هذا أو ذاك، فما يحقق لي منفعة قد يحقق ضرر لغيري، وقد نجد أفكار صالحة ونافعة غير أنها لا يمكن أن تتحول إلى صواب رغم نجاحها في الحياة (المجال العملي).
مقياس الحقيقة هو الإنسان لأنه هو الذي يعثر لنفسه على ماهيته وليس ثمة عالم غير العالم الإنساني، عالم الذاتية الإنسانية، وليس ثمة مشروع غير الإنسان، فلا بد لهذا الإنسان أن يجد ذاته وأن يوثق بأنه ليس ثمة شيء يمكن أن ينقذه من نفسه بل عليه هو أن ينقذ نفسه بنفسه، فهو محكوم عليه بأن يختار مصيره ولكنه أيضاً محكوم عليه بأن يموت، ويجب عليه التركيز على هذه التجربة التي تجمع بين الحياة والموت وما ينتج عنها من قلق وألم وثقل المسؤولية، فالحقيقة إذاً هي إنجاز الماهية (ماهية الإنسان)، إن هذا الموقف رد الاعتبار إلى الإنسان ولكنه أهمل أن الإنسان كائن اجتماعي له حقوق وعليه واجبات.
نعني بالواقع الوجود الموضوعي للأشياء الماثلة أمامنا والتي لها حيز في المكان، ويعني الواقع أيضاً ما يمكن التأكد منه حسياً وتجريبياً وما يشترك فيه جميع الناس ولا يختلفون فيه، ومن هذا المنطلق ذهب بعض الباحثون إلى اعتبار الواقع معياراً للحقيقة والتجربة أداة للتأكد من صحة أفكارنا، وأن صحة هذه الأفكار تقوم على أساس مطابقتها للواقع، فالحكم على انصهار المعادن بالحرارة حكم صحيح لأن الواقع يثبت ذلك تجريبياً فتكون الحقيقة مجرد انعكاس للواقع، لكن هل صحيح أن الواقع يعكس دائما الحقيقة؟ لا يعكس الواقع عند الفلاسفة المثاليين الحقيقة، بل تتجاوز الحقيقة حدود الواقع كمثل ومبادئ وبواسطتها نحكم على هذا الواقع بالصواب والخطأ.
خاتمة
خارج البعدين الأخلاقي والنفعي الذين لكل منهما رؤيته المحكومة بالنسق النظري الذي ينتمي إليه الباحث، فإن هذه القضية تحظى بأهمية بالغة كونها تكشف بعض الجوانب التي يمكن من خلالها مقاربة قيمة الحقيقة، ولأن اكتفينا بعرض بعض الجوانب في هذا المقال، فإن هناك بعض الجوانب التي يمكن أن تكون مجالاً لفتح أفاق جديدة للتفكير في هذا الإشكال انطلاقاً من التساؤل عن حقيقة الوجود، وعن حقيقة المعرفة، وعن حقيقة الجمال، وعن حقيقة الإنسان، وعن حقيقة الخير.
تنسيق الرسائل العلمية